كانت هذهِ ليلتي ..ليست رومنسيةً مني ولكن لم يوجد لديّ حلٌ آخر لأرى تفاصيلَ غرفتي...لأواجهً ظلامً بيتنا..
فبعدَ سبعً ساعاتٍ متواصلة من انقطاعِ التيارِ الكهربائي..انتهت كلُّ شحناتنا المخزن..ليغرقَ بيتنا وكلُّ البيوت المحيطة في ظلام ليلٍ درجة حرارته تقتربُ من الصفر ..
لكِ اللهُ يا غزة!
ماءٌ متجمد فقط هو ما وجدناه ُ لنستعدّ لصلاةٍ نرفعُ أكفنا فيها وندعو رباً فوقَ الجميع ..حبي اللهُ ونعم الوكيل..
بردٌ قارصٌ يغتالُ صغارنا ..وحتى كبارنا...
صمتٌ قاتلٌ يلفُّ المكان ..فلا أصوات لأجهزةٍ كهربائية ... ولا أصرات لبشر ..الكلُّ يختبىءُ إما خوفاً من الظلام ..أو هرباً من البرودة...
لكِ اللهُ يا غزة !
وتنقضي شمعتي ...رويداً ..رويداً .. ولكن هل علّني أجدّ لديّ غيرها ...
وما الفارقُ أصلاً؟؟أن أرى كوناً أسوداً مغلفاً بسحاباتِ البرودة؟؟أم أن أرى بصيص ضوءٍ يذكرني ..نامي واصمتي يا ابنة غزة ..فلن يتغيّر شيء ..ولن يشعر أحد ..وأمسكُ قلمي بأيادٍ مرتجفة ..وأخطّ بعض السطورِ علّها تدفئُ البردَ الذي استوطن أوصالي ..
شمعتي توشكُ أن تذهبَ كما وجودنا ...وكما لدفءُ في عروقنا ..ولكن هل سأجد من يمدّني بشمعةٍ أخرى؟؟!
هل سيعودُ الدفءُ مرةً أخرى ليحتضنُ جسدي؟؟
ورادوتني فكرةٌ مجنونة ... ولكن هل هناكَ حدٌ للجنون في مثلِ هذا الموقف؟؟
ماذا يوجدُ خلفَ زجاجِ النافذة؟!!
وهرعتُ لأنفذ خاطري ..نسماتٌ متجمدةٌ ..صمتٌ ... وظلام ...
شعرتُ أنّ برودة الهواءِ وصلت حتى العظام...ورغم ذلكَ لم أغلقُ النافذة..ماذا يعني مزيداً من الظلام والصقيع؟؟
بردٌ ..لن يقيكَ منهُ أغطيةٌ ثقيلةٌ .. ولا جوارب صوفيّة .. ولا وشاح... ولا حتى قبّعة ..
فلا تختبىء يا ابن غزة!
واجه بردك..وظلامك ..فلا حلولَ لديك .. طريقٌ واحدٌ ..وفي اتجاهٍ واحد ..من يقفُ ..سيغرقُ في الظلام.ومن يسير..يسيرُ أيضاً في الظلام..
صمتٌ مخيفٌ يخيّمُ على بيتنا.. على حيّنا...أينَ تلك الحركةُ النشيطةُ لاستعتدادِ أطفالِ المدارس؟؟ أينّ تلكَ الأصوات في مطابخ الجيران عند تحضيرِ الإفطار؟؟أينَ تلكَ الأصواتِ التي تحثُ بعضها على الإسراع؟؟
البردُ أسكتَ كلّ شيء.. وكل صوتٍ يعلو ..ما يلبثُ أن يتراجع..ويتناهى علهُ يحفظُ شيئاً من الطاقةِ لفترةٍ أطول ..
ورغم كل ذلك رأيتُ أطفال المدارس ..يمشون بصمتٍ متلاصقين ...يبثُّ بعضهم الدفء بأوصالِ بعضٍ ..فالدفءُ حاجةٌ جماعية..ودخانٌ حارٌ ينطلقُ من شفاهٍ بريئةٍ تلونت بالأزرق.. لا المعاطف الثقيلة ..ولا الملابسُ الشتوية تدفءُ برداً استوطن في العظام..
ورغم ذلك يمضون ..علّهم بذلك يتحدون سطوةِ وجبروتِ دولةٍ تغتالُ الضعفاء..وتهوى قتل الأطفال .. علّهم يخبرون العالمَ أن غزّةَ لم تزل غزّة .. وإن تلوّنت بالظلام.. وإن توشحت بالبرودة.. ما زالت صامدة وبعونِ اللهِ لن تركع..
وانفصلَ طفلٌ صغيرُ عن المجموعة .. باصرارٍ طفوليٍّ راح يركضُ وينشد .."إني اخترتك يا وطني..حبا وطواعية ..إني اخترتك يا وطني ..سراً وعلانية .."
ومع تقافزهِ هنا وهنا ..لفتَ انتباه الجميع ..ثم أدركوا جميعاً مقصده..فصمتهم ووقوفهم متلاصقين لن يجلب لهم الدفء..فصاروا يرددون معاً وغدا الشارعُ نشيطاً مبتهجاً مرةً اخرى..
والآن..انتهت جميعُ شمعاتِ العائلة ..وبقيَ في شمعتي بصيصٌ من ضوء..
لأكتبَ عبارتي الأخيرة...